سورة العنكبوت - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)}.
التفسير:
فى هذه الآيات التي بدئت بها السورة، تقرير لما ختمت به سورة القصص قبلها، وهو أن الإيمان باللّه، ليس مجرّد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما هو عقيدة تسكن القلب، وعمل تقوم به الجوارح، وجهاد شاق متصل.
وبهذا يكون للإيمان وزنه واعتباره، ويكون للمؤمنين شأنهم ومقامهم.
فالمؤمنون، الذين لقيتهم هذه الآيات في أول الدعوة الإسلامية- كانوا في وجه محنة قاسية، حيث انخلعوا عن أهليهم، وانعزلوا عن مجتمعهم، وكانوا قلة قليلة في مواجهة عاصفة عاتية، تسوق إليهم البلاء بغير حساب، حتى هاجروا من ديارهم، وخرجوا من أموالهم.. فلما اجتمع لهم في موطنهم الجديد، شيء من القوة، وأذن اللّه لهم في القتال- كان أول لقاء لهم، مع آبائهم، وأبنائهم، وإخوتهم، فعملت سيوفهم في رقاب المشركين من أهليهم وذوى رحمهم، فما نكل أحد منهم عن أن يضرب بسيفه من كان- قبل الإسلام- يفديه بنفسه، ويلقى الموت دونه.. وقد حدّث التاريخ أن أبا بكر لقى ابنه في معركة بدر، وقد عرفه ابنه ولم يعرفه.. فلما كان بعد زمن، ودخل ابنه في الإسلام، قال لأبيه: لقد عرضت لى يوم بدر، فأعرضت عنك، فقال له أبو بكر، لو عرضت لى يومئذ، وأمكننى اللّه منك، لما رددت سيفى عنك!! ولا شك أن هذه كانت تجربة ثقيلة على نفوس المؤمنين، وقد احتملوها صابرين، وكانت آيات اللّه تتنزل عليهم، فتبعث في نفوسهم المضطربة، سكنا، وتسوق إلى قلوبهم الملتهبة، بردا وسلاما.
ونجد في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} تصحيحا لما يقع في بعض النفوس المؤمنة من انزعاج أو استثقال لهذا العبء الذي حملوه من الإيمان باللّه.. كما نجد في الآية والآيات التي بعدها إجابات قاطعة على تلك التساؤلات التي كانت تتردد في الخواطر: لم يكون الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف؟ ولم يحملنا إيماننا باللّه على هذا المركب الوعر؟ ألسنا على الهدى، وعلى الصراط المستقيم؟ وهل هذا الطريق هكذا وعر المسالك، مزدحم العقبات؟
ونعم.. إن الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف، وإن طريقه وعر المسالك جمّ العقبات!! إنه الطريق إلى الجنة، وإن طريق الجنة محفوف بالمكاره! وإن هذا البلاء الذي يلقاه المؤمن على طريق إيمانه، هو ابتلاء له، وتمحيص لما عنده من صبر ومصابرة.. وهل يصفّى الذهب من الغثاء الذي علق به، إلا إذا صهر بالنار؟ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} [31: محمد]. {ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [179: آل عمران].
وهل انكشف وجه النفاق، وعرف المنافقون إلا في بوتقة الابتلاء، وفي مقام التضحية والبذل؟
إن الناس جميعا على سواء في حال الأمن والعافية.. فإذا كانت المحن والشدائد، فهم أنماط وأشكال، وهم معادن مختلفة، بين غث وثمين! والاستفهام في الآية الكريمة، للإنكار، والنفي.. أي ليس الأمر على ما يظن الناس وما يقدرون، من أنهم إذا قالوا آمنا كانوا مؤمنين.. كلّا، إن ذلك لا يكون حتى يفتنوا، وحتى يبتلوا.. وعندئذ ينكشف ما عندهم من إيمان.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} هكذا حكم اللّه في عباده.. فكما امتحن اللّه المؤمنين في الأمم السابقة، يمتحن سبحانه الذين أسلموا، بما يفتنهم، في دينهم مما يلقاهم من شدائد ومحن.
فمن كان صادق الإيمان، سليم العقيدة، خالص النية، أمسك إيمانه في قلبه، وثبت عليه، ومن كان على غير تلك الصفة انخلع عن دينه، وألقى به لأول مسة تمسه من بلاء، وباعه بأبخس ثمن!.
وفي قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} بهذا الأمر المؤكد- إعلان للمؤمنين بأنهم في وجه ابتلاء، وفي مواجهة فتن، لا بد لهم منها.. إن لم تكن واقعة بهم فعلا، فإنها ستقع حتما.. هكذا يجب أن يتقرر في نفوسهم من أول الطريق.. فمن شاء أن يكون في المؤمنين، فليوطن نفسه على هذا، وليستعد لحمل أفدح الضربات.. وإلا فليأخذ طريقا غير هذا الطريق، وأمامه أكثر من طريق فسيح.!
والمؤمنون الأولون الذين دخلوا في الإسلام، ورسخت أقدامهم فيه، هم- كما شهد التاريخ- أصفى الناس جوهرا، وأكرمهم معدنا.. فقد كانوا خلاصة مجتمعهم، وثاقة عزم، وقوة يقين.. فاحتملوا من الشدائد والمحن ما تتصدع به الجبال الراسيات.. {فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [146: آل عمران] ومن أجل هذا، فقد شهد القرآن الكريم لهذه الصفوة المتخيرة من عباد اللّه أكرم شهادة، وجعل ميزان الواحد منهم يعدل عشرة من غير المؤمنين، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [65: الأنفال].
وأنت ترى أن الصفة التي فرق بها القرآن بين هؤلاء المؤمنين، والمشركين، هى الفقه.
وهو ليس ذلك العلم النظري، وإنما هو الحق الذي يملأ القلوب نورا، فيكشف لصاحبه من آيات اللّه، ودلائل قدرته، وعلمه، وحكمته، ما يصغر به كل شىء، إزاء عظمة الخالق وجلاله.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ}.
هو لفتة تلفت المؤمنين، الذين يعانون ما يعانون من أعباء الإيمان وتبعاته- إلى هؤلاء المشركين، الذين خلت دنياهم من هذا البلاء، وفرغوا لما هم فيه من متع الحياة.. فهؤلاء المشركون لهم يومهم الذي يوعدون، حيث يلقون ما يعلمه المؤمنون من سوء العذاب، الذي أعدّه اللّه للمشركين والمنافقين والكافرين.. إنهم لن يسبقوا يد القدرة المتمكنة منهم، وإنهم لن يفلتوا من بأس اللّه إذا جاءهم.. وإنهم إن ظنوا ذلك، فذلك الظن هو الذي يحملهم إلى الردى، ويسوقهم إلى الهلاك. {ساءَ ما يَحْكُمُونَ}.
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
هو دعوة للمؤمنين إلى ما أعد اللّه لهم من نعيم، وتطمين لقلوبهم بما وعدهم به من مغفرة ورضوان، فهم لهذا الوعد يعملون، وعلى رجاء لقاء ربهم يجاهدون، ويصبرون على ما يلقون من أذى وبلاء.
وقوله تعالى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} توكيد لتحقيق وعد اللّه، وأنه آت لا شك فيه، ولكن في الوقت الموقوت له.. ولهذا جاء النظم بلفظ {أجل} بدلا من اللفظ الذي يقتضيه سياق النظم وهو اللقاء.
وذلك للإشعار بأن هذا الوعد له أجل محدود، عند اللّه، وأنه متى جاء الأجل، التقى المؤمنون بما وعدهم اللّه به.
وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السميع لما يقول المؤمنون بألسنتهم، العليم بما انعقد في القلوب من إيمان، يصدّقه العمل.
قوله تعالى: {وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}.
وهذا البلاء الذي يحتمله المؤمنون، وهذا الجهاد الذي يجاهدونه في سبيل اللّه، إنما هو تزكية لأنفسهم، وتطهير لقلوبهم، وإعلاء لذواتهم.
وإنه ليس للّه من أعمال عباده ما ينفعه أو يضره.. فلا ينفعه طاعة المطيعين، ولا يضره عصيان العاصين.. وكيف، وهو سبحانه الذي يقوم على وجودهم ويحفظ عليهم حياتهم، ويمدّهم بكل نفس يتنفسونه في هذه الحياة؟ {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}.
إن هذا الجهاد، وهذا الصراع القائم بين الحق والباطل، وبين المؤمنين والكافرين، هو ضريبة الحياة، وهو الثمن الذي يقدمه المؤمنون المجاهدون في سبيل حياة أفضل.. فهم أصحاب الحياة بحق، وغيرهم دخيل عليها، لا يستحق أن يأخذ مكانا كريما فيها.. فجهاد المجاهدين، هو في الواقع، جهاد في سبيل وجودهم، وجودا كريما في هذه الحياة الدنيا، وإلّا فالموت في مجال الصراع خير لهم، حيث ينقلون إلى دار خير من دارهم، وإلى حياة أفضل من حياتهم.
إن النبتة لا ترى النور، ولا تصافح النسيم، حتى تدفع برأسها الواهي الضعيف هذا التراب الذي قام فوقها، وحجب النور عنها..!!
وفي الإنسان- كل إنسان- أشواق إلى عالم الحق والنور، وتقوم بينه وبين هذا العالم سدود من الباطل والضلال، وإنه لكى يصافح معالم الحق والنور، ينبغى أن يزيل هذه السدود، وأن يحطمها بكل ما أوتى من قوة، وألا يتحول عن موقفه منها حتى يبلغ غايته، أو يموت دونها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو احتراس مما تقرر في الآية السابقة من أن جهاد المجاهدين، وما يصيبهم على طريق الجهاد، هو لهم، وليس للّه منه شىء.. وهذا الاحتراس يدفع ما يقع في النفوس من أن الجهاد والبلاء لا أجر له عند اللّه.. وكلا، فإنه مع أن أجر الجهاد فيه، وأن ثمرة كل عمل صالح يجنبها صاحب العمل من العمل نفسه- مع هذا فإنه اللّه سبحانه وتعالى، قد جعل للعمل الصالح جزاء حسنا من عنده، كما توعد أصحاب السيئات والمنكر بالعذاب الأليم.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات قد وعدهم اللّه بأن يكفر عنهم سيئاتهم، بما عملوا من حسنات، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [114: هود] كما وعدهم بأن يجزيهم بإحسانهم إحسانا مضافا، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}.


{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قلنا إن المؤمنين قد ابتلوا أول الإسلام بلاء عظيما، حيث فرق الإسلام بين ذوى الأرحام، وقطّع ما بينهم من صلات المودة.. وقد أشرنا إلى ذلك في آخر سورة القصص، وفي أول هذه السورة.
وهذه الآية تعرض قضية من قضايا هذا الصراع النفسي الذي أوجده الخلاف في الدين بين الآباء والأبناء.
فالآباء الذين دعوا إلى الإسلام، قد وقفوا موقف العناد، وأبوا أن يتحولوا عما ألقوه من عادات ومعتقدات، وقليل منهم من آمن اللّه.
والأبناء، كانوا أقرب إلى الإسلام، إذ لم تكن فطرتهم قد انطمست معالمها بعد، بموروثات آبائهم وأجدادهم، فحين دعوا إلى الدين الجديد، استجابوا له.. وقليل منهم من حزن وأبى! والأمثلة هنا كثيرة.. فقد سبق أبو بكر إلى الإسلام، وتأخر أبوه إلى يوم الفتح.. وعلى بن أبى طالب، سبق إلى الإسلام ولم يسلم أبوه.. وهكذا.
فماذا يكون الموقف بين أبناء مؤمنين وآباء مشركين؟ إن الإسلام يوصى ببر الوالدين، وطاعتهما، والإحسان إليهما.. فماذا يكون الموقف لو أن الوالدين المشركين أرادا ابنهما على أن يرتد عن دينه الذي دخل فيه، ويعود إلى دينهم مشركا؟ أيطيعهما، ويرتد مشركا، أم لا يلتفت إليهما، ولا يسمع لقولهما؟
وجواب الإسلام على هذا هو أنه لا ينكر حق الوالدين، والطاعة المفروضة على الأبناء لهما، ولكن هذا، حق إذا تعارض مع حق هو أولى منه، قدّم الحق الأولى عليه.
وهنا حق أول، لزم الابن، ووجب عليه، هو الإيمان باللّه.. وإن أي حق يتعرض هذا الحق لا يلتفت إليه.
وإذن، فالذى يقتضيه الموقف الذي يقفه الابن المؤمن من والديه المشركين، هو أن يلزم جانب الإيمان باللّه، وألا يجعل من طاعته لهما عصيانه للّه، وكفره به، على أن يلتزم الابن- ما استطاع- حدود الأدب معها، وألا يعنف بهما، وألا يسوق شيئا من الأذى إليهما، وحسبه أن يظل ممسكا بدينه، حريصا عليه، لا تنال منه أية قوة، مهما كان بأسها، وسلطانها.
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما} دعوة إلى التمسك بالدين، على الرغم من مجاهدة الوالدين للابن، وقسوتهما عليه، وأخذه بكل ما لهما عليه، من سلطان مادى أو أدبى.
وقوله تعالى: {ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إشارة إلى أن المعتقد الدسني السليم، يجب أن يقوم على أساس من العلم، الذي يقيم لصاحبه تصوّرا واضحا، وإدراكا سليما للإله الذي يعبده.. أما أن يدين الإنسان بما دان به آباؤه وأجداده، من غير أن يكون له نظر وفهم، ومن غير أن يجد بين يديه الحجة والبرهان على أحقية معبوده بالعبادة، فذلك معتقد لا ينتفع به صاحبه، وإن كان في ذاته معتقدا سليما، لأنه لم ينبع عن إرادته، ولم يتصل بمشاعره. فهو كائن غريب في كيانه، وهذا يعنى أن الأبوين- أحدهما أو كليهما- إذا كانت منهما دعوة إلى ابنهما أن يعبد إلها غير اللّه، وأن يدين بدين غير الإسلام، الذي آمن به عن نظر واقتناع- فليس ذلك بالذي يمنع الابن من أن ينظر في هذه الدعوة الجديدة التي يدعى إليها من أبويه، وأن يتعرف على هذا الإله الذي يراد منه أن يعبده.
فليس الإسلام بالذي يحجر على العقل أن ينظر في كل دين، وأن يبحث في كل معتقد، وأن يتفرس وجوه الآلهة التي يعبدها العابدون.. فهذا النظر وذلك البحث والتفرس، سينتهى آخر الأمر إلى حقيقتين:
أولاهما: أنه سيسقط من الحساب كلّ ما يقع عليه النظر من آلهة غير اللّه سبحانه وتعالى.. وأنه كلما تفرس المرء في وجه من وجوه هذه الآلهة التي تعبد من دون اللّه، أنكره، وارتفع بإنسانيته عن أن يعفر وجهه في معبد لحجر، أو صنم، أو حيوان.. أو إنسان.. وبهذا النظر يفيد الإنسان علما، وهو أن المعبود الحق، هو اللّه جل وعلا، وأن أي معبود آخر، لا يجد العقل من جهته علما يمسك منه بحجة أو برهان على ألوهيته- هو معبود باطل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
وما يشير إليه قوله سبحانه في آية أخرى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} [117: المؤمنون] وثانيتهما: أن هذا النظر المتفحص، الذي يطلب علما، ويرتاد حقيقة، من شأنه أن يثبت إيمان المؤمن باللّه، ويكشف له من جلال اللّه وعظمته، وعلمه، وقدرته- ما يملأ قلبه يقينا بربه، وطمأنينة إلى الدين الذي يدين به، فيعبد اللّه مخلصا له الدين، غير متعرض لما يتعرض له غيره من اهتزاز في إيمانه، واضطراب في عقيدته، كلما مرت به محنة، أو أصابته فتنة.. فيكون ممن قال اللّه فيهم:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} [11: الحج] ولهذا كان من تدبير الإسلام دعوة المؤمنين إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وإعمال العقل في كل ما يعرض للمؤمن من أمر، ولقد جعل الإسلام النظر والتدبر، عبادة يتقرب بها المؤمن إلى ربه، ويبغى بها المثوبة والرضوان.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} هو دعوة للوالدين المشركين، أن يأخذا طريقهما إلى الإيمان والعمل الصالح، ليكونا في عباد اللّه الصالحين، وليفوزا بما أعد اللّه سبحانه وتعالى لهما من رضا ورضوان.. ثم هو دعوة للأبناء المؤمنين أن يستمسكوا بدينهم، وأن يحتملوا في صبر ورضا ما يلقون من آلام مادية ونفسية، ليظلوا في عباد اللّه المؤمنين الصالحين.. ثم هو دعوة عامة للناس جميعا، إلى الإيمان باللّه، والعمل الصالح.
فالمؤمنون مدعوون ليتمسكوا بإيمانهم، ثم ليؤدوا لهذا الإيمان مطلوبه من الأعمال الصالحة.. وغير المؤمنين مدعوون ليؤمنوا باللّه أولا، ثم ليعملوا صالحا.. فهذا هو طريق النجاة والفلاح.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ، وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ}.
هو مثل شارح لقوله تعالى في أول السورة: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} ولقوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}.
ففى هذا المثل عرض لصورة من صور الذين يقولون آمنا بأفواههم، ولم تطمئن قلوبهم بالإيمان.. فمثل هؤلاء المؤمنين، إذا أصابهم على طريق الإيمان شيء من الضر أو الأذى المادي أو النفسي، خلعوا ثوب الإيمان، وتجردوا منه، وارتدّوا على أدبارهم خاسرين.
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} أي من بعض الناس من يجرى كلمة الإيمان على لسانه، ويحسب بهذا أنه من أهل الإيمان حقا.
والإيمان- كما قلنا- ليس مجرد هذه القولة التي ينطق بها اللسان، وإنما للإيمان تبعاته، وله أعباؤه وتكاليفه، من امتثال أوامر اللّه، واجتناب نواهيه.. فمن لم يؤد للإيمان حقه الذي له، فليس من الإيمان في شى ء!.
وقوله تعالى: {فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ} إشارة إلى أن هذا الذي يؤمن بلسانه، ولا ينعقد الإيمان في قلبه- إذا أصيب بأذى في سبيل الإيمان، أسرع بالتحول عنه، ونسى أنه بهذا وإن يكن قد خلص من أيدى الناس، وسلّم من أذاهم، فقد وقع ليد اللّه، ولبأسه وعذابه.
وشتان بين عذاب اللّه، وعذاب الناس وقوله تعالى: {وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي أن ضعاف الإيمان هؤلاء، يلبسون الإيمان ظاهرا، فإذا مسهم الأذى تجردوا منه، وإذا ساق اللّه إلى المؤمنين خيرا، ومنحهم نصرا، جاء هؤلاء المتلصصون، ليأخذوا نصيبهم مع المؤمنين، فيما أفاء اللّه عليهم من خير.
وقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} هو تهديد لهؤلاء المنافقين الذين لم يظهروا بعد، على مسرح الحياة الإسلامية، وإن كانوا سيظهرون، وشيكا حين يلتحم القتال بين المؤمنين والمشركين.
وأنه إذا كان المؤمنون لا يعلمون من هؤلاء المنافقين إلا هذا الظاهر الذي يدخلون به مدخل المؤمنين، فإن اللّه سبحانه وتعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون.
والآية الكريمة إرهاص بما ستكشف عنه الأيام، من إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، حين يبتلى المؤمنون بالجهاد في سبيل اللّه، ويدعون إلى تقديم أنفسهم وأموالهم دفاعا عن دينهم الذي دانوا للّه به.
فالآية مكية، ولكنها تشير إلى ما سيكتب اللّه للمؤمنين من نصر، وما يسوق إليهم من رزق كما يقول سبحانه: {وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ}.
وهذا من أنباء الغيب، التي حمل القرآن الكريم كثيرا منها.
قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ}.
هو توكيد، لما سيلقى المؤمنون على طريق الجهاد من امتحان وابتلاء.
وأن هذا من شأنه أن يكشف عن حقيقة ما عند كلّ منهم من إيمان.. وعندئذ يعرف من المؤمنون، ومن المنافقون.
فالعلم هنا في قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ} ليس مرادا به العلم في حقيقته، وإنما المراد به ما يلزم عنه العلم، وهو الابتلاء والاختبار.. وهذا يعنى أن الابتلاء أمر لازم لا بد منه، قد أوجبه اللّه سبحانه وتعالى على نفسه، وأقام المؤمنين على الامتحان به!.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ}.
ومما يبتلى به المؤمنون على طريق الإيمان، هذه الفتن التي تطلع عليهم من إخوان السوء، وأهل الضلال والكفر، من الآباء والأهل والأصدقاء، حيث يزينون لهم الضلال، ويدعونهم إليه، فإذا حدثوهم عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، هوّنوا عليهم الأمر، وقالوا لهم: لا تخشوا شيئا إن كان هناك آخرة، وكان حساب وجزاء، فنحن الذين دعوناكم إلى ما نحن فيه، ونحن نحمل تبعة هذا عنكم، فما أنتم إلا تبع لنا في هذا المقام..!
وقد كذبهم اللّه سبحانه وتعالى في دعواهم تلك، فقال سبحانه {وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
إذ كل نفس بما كسبت رهينة، وليس لإنسان أن يتولى أمر إنسان، ويحمل تبعته.. فكل إنسان له ذاتيته، وعليه مسئولية ما يعمل.. هكذا الإنسان، أو هكذا يجب أن يكون!.
وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ} أي أن هؤلاء الضالين، الذين يعملون على إضلال غيرهم، سيحملون فعلا ذنوبهم هم، وذنوب الذين أضلوهم، على حين لا يرفع عن كاهل الذين أضلوهم ما حملوا من ذنوب، فهذه الذنوب هي من كسبهم، لا تحسب على أحد غيرهم.. ثم إنها- من جهة أخرى من غرس الذين دعوهم إليها وأصلّوهم بها. فلا بد أن يطعموا من ثمرها الفاسد المشئوم!.


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أنها تعرض في إيجاز معجز، صورتين من صور الصراع بين الحق والباطل، فتواجه بهاتين الصورتين، هذا الصراع القائم بين المؤمنين والمشركين.. بين النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- والمؤمنين معه، وبين المشركين ومن اجتمع إليهم.
وفي الصورة الأولى، يرى المشركون أنفسهم في قوم نوح، الذي طول مقامه فيهم حتى بلغ ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم ينفعهم هذا الزمن الطويل، الذي وقفوا فيه إزاء دعوة الحق. ولم تلتق طريقهم مع طريقه.. فكان أن أخذهم الطوفان، وهم متلبسون بكفرهم، يحملونه معهم إلى يوم الجزاء.. أما نوح ومن آمن معه، فقد نجاهم اللّه، وكان في نجاته آية للعالمين.
وفي الصورة الثانية: يرى المشركون أيضا رسولا من رسل اللّه، هو جدهم الأعلى، إبراهيم، عليه السلام، يقوم في قومه مقام محمد فيهم. فكل من النبيين الكريمين- إبراهيم ومحمد- عليهما السلام يدعو قومه إلى عبادة اللّه وحده، وإلى الانخلاع عن عبادة الأوثان التي يخلقونها بأيديهم وإن عبادة تلك الأوثان ضلال، وامتهان لكرامة الإنسان.. إنها لا تملك لهم رزقا.. وإنما لذى يبتغى عنده الرزق، هو اللّه رب العالمين.
هذه هي دعوة كلا النبيين الكريمين، وقد بلغها كل منهما إلى قومه، كما أمره ربه {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.
ويلاحظ هنا، أن قصة نوح تحمل إنذارا بالهلاك العام الشامل للكافرين جميعا، على حين أن قصة إبراهيم لم تحمل نذيرا بالعذاب الذي سيحلّ بالمشركين فما سر هذا.
نقول- واللّه أعلم- إن قصة نوح تمثل الدور الأول من الدعوة الإسلامية وذلك في مكة قبل الهجرة.. وأن هجرة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إلى المدينة مع أصحابه، كانت أشبه بسفينة نوح، حيث وجد المسلمون في المدينة أمنا وسلاما، وحيث غرق المشركون في موقعة بدر، ومن لم يغرق منهم في ميدان القتال، مات غرقا في بحر الكفر والضلال، قبل أن يدركه الإسلام يوم الفتح، أما من ظل منهم على الحياة، يتخبط في أمواج الضلال، فقد انتشله الرسول الكريم يوم الفتح، وألقى به في سفينة النجاة، يوم ألقت مراسيها على المرفأ الذي أقلعت منه..!
أما قصة إبراهيم فإنها تصافح قصة نوح، وتلتقى بسفينة النجاة التي حملت النبي ومن معه إلى المدينة، ثم عادت بهم يوم الفتح إلى مكة.. وهناك يقف الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، موقف إبراهيم يوم أقبل على الأصنام فحطمها، وجعلها جذاذا.. فقد أقبل النبي يوم الفتح على جماعات الأصنام التي كانت منصوبة حول الكعبة، فقلبها على وجوهها محطّمة، وهو يتلوقوله تعالى: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} [81: الإسراء].
ولعل هذا، هو السر في اختيار هاتين القصتين هنا، من بين قصص الأنبياء التي جاء بها القرآن الكريم، إذ كان في قصة نوح هلاك ونجاة معا، هلاك للكافرين ونجاة للمؤمنين.. ثم كان قصة في إبراهيم بلاغ مبين، هو غاية ما يطلب من رسول اللّه إلى عباد اللّه.
وقد رأينا أنه في الدور الأول للدعوة الإسلامية، قد نجا النبي ومن معه، وهلك مشركو قريش ومن معهم.. ثم رأينا يوم الفتح، ثم في حجة الوداع، كيف حطم النبي الأصنام، وبلغ رسالة ربه، بلاغا مبينا، وأشهد على ذلك المؤمنين جميعا، قائلا بعد كل مقطع من مقاطع خطبته: «هل بلغت؟ اللهم فاشهد..».
ثم دعا الشاهدين أن يبلغوا من لم يشهد: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب».
ألا خرست ألسنة تقول في هذا القصص: {إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وألا خسىء وخسر المبطلون، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} [77- 80: الواقعة].

1 | 2 | 3 | 4